سورة المائدة - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المائدة)


        


{يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود} الوفاءُ القيامُ بموجَبِ العَقْد، وكذا الإيفاء، والعقد هو العهدُ الموَثَّقُ المشبَّه بعقد الحبل ونحوه، والمراد بالعقود ما يعمّ جميعَ ما ألزمه الله تعالى عبادَه وعقَده عليهم من التكاليف والأحكام الدينية وما يعقِدونه فيما بينهم من عقود الأمانات والمعاملات ونحوها، مما يجب الوفاء به، أو يحسنُ دِيناً بأن يُحمل الأمرُ على معنىً يعمّ الوجوبَ والندبَ. أُمرَ بذلك أولاً على وجه الإجمال، ثم شُرِعَ في تفصيلِ الأحكام التي أمر بالإيفاء بها وبُدىء بما يتعلّق بضروريات مَعايشِهم فقيل: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الانعام} البهيمةُ كلُّ ذات أربع، وإضافتُها إلى الأنعام للبيان كثوب الخزّ، وإفرادُها لإرادة الجنس، أي أحِلّ لكم أكلُ البهيمة من الأنعام، وهي الأزواجُ الثمانية المعدودة في سورة الأنعام، وأُلحِق بها الظباءُ وبقَرُ الوَحْش ونحوُهما، وقيل: هي المرادة بالبهيمة هاهنا لتقدّم بيان حِلِّ الأنعام، والإضافةُ لما بينهما من المشابهة والمماثلة في الاجترار وعدم الأنياب، وفائدتُها الإشعارُ بعِلة الحكم المشتركة بين المضافَيْن، كأنه قيل: أُحلت لكم البهيمةُ الشبيهة بالأنعام التي بَيَّن إحلالَها فيما سبق، المماثِلةُ لها في مَناطِ الحُكم. وتقديم الجارّ والمجرور على القائم مَقام الفاعل لما مر مراراً من إظهار العناية بالمقدَّم، لما فيه من تعجيل المسرَّة والتشويق إلى المؤخَّر، فإن ما حقُّه التقديمُ إذا أُخِّر تبقى النفسُ مترقِّبةً إلى وروده، فيتمكّن عندها فضلُ تمكّن.
{إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} استثناء من {بهيمةُ} أي إلا مُحرَّمَ ما يتلى عليكم من قوله تعالى: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة} ونحوَه، أو إلا ما يُتلى عليكم آيةُ تحريمه. {غَيْرَ مُحِلّى الصيد} أي الاصطيادِ في البَرّ أو أكلِ صيده، وهو نصبٌ على الحالية من ضمير لكم، ومعنى عدمِ إحلالِهم له تقريرُ حرمته عملاً واعتقاداً، وهو شائع في الكتاب والسنة، وقوله تعالى: {وَأَنتُمْ حُرُمٌ} أي مُحرمون، حال من الضمير في مُحِلِّي، وفائدةُ تقييد إحلالِ بهيمةِ الأنعام بما ذُكر من عدم إحلالِ الصيد حالَ الإحرام على تقدير كونِ المراد بها الظباءَ ونظائرَها ظاهرةٌ، لما أن إحلالها غيرُ مُطلق، كأنه قيل: أحل لكم الصيدُ حالَ كونِكم ممتنعين عنه عند إحرامكم.
وأما على التقدير الأول ففائدته إتمامُ النعمة وإظهارُ الامتنان بإحلالها بتذكير احتياجهم إليه، فإن حرمةَ الصيد في حالة الإحرام من مظانِّ حاجتهم إلى إحلال غيرِه حينئذ، كأنه قيل: أحلت لكم الأنعام مطلقاً حالَ كونكم ممتنِعين عن تحصيل ما يُغنيكم عنها في بعض الأوقات محتاجين إلى إحلالها. وفي إسناد عدم الإحلال إليهم بالمعنى المذكور مع حصول المراد بأن يقال: غيرُ محلَّلٍ لكم، أو محرماً عليكم الصيدُ حال إحرامكم مزيدُ تربيةٍ للامتنان، وتقرير للحاجة ببيان علتها القريبة، فإن تحريم الصيد عليهم إنما يوجب حاجتهم إلى إحلال ما يغنيهم عنه باعتبار تحريمهم له عملاً واعتقاداً، مع ما في ذلك من وصفهم بما هو اللائق بهم، {إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} من الأحكام حسبما تقتضيه مشيئتُه المبْنيةُ على الحِكَم البالغة، فيدخل فيها ما ذُكر من التحليل والتحريم دخولاً أولياً، ومعنى الإيفاء بهما الجرَيانُ على موجبهما عقداً وعملاً، والاجتنابُ عن تحليل المحرمات وتحريم بعضِ المحلَّلاتِ كالبَحيرة ونظائرِها التي سيأتي بيانها.


{يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله} لمّا بيّن حُرمةَ إحلال الإحرام الذي هو من شعائر الحج عقّب ذلك ببيان حرمة إحلال سائر الشعائر، وإضافتُها إلى الله عز وجل لتشريفها وتهويلِ الخطب في إحلالها، وهي جمع شعيرةٍ وهي اسم لما أُشعِر، أي جُعل شِعاراً وعَلَماً للنُسُك من مواقيت الحج ومرامي الجمار والمطافِ والمسعى، والأفعالِ التي هي علاماتُ الحج يُعرف بها، من الإحرام والطوافِ والسعْي والحلق والنحر، وإحلالُها أن يُتهاوَن بحرمتها ويُحال بينها وبين المتنسّكين بها ويُحدَثَ في أشهر الحج ما يُصَدّ به الناسُ عن الحج. وقيل: المراد بها دينُ الله لقوله تعالى: {وَمَن يُعَظّمْ شعائر الله} أي دِينه، وقيل: حرماتِ الله، وقيل: فرائضَه التي حدّها لعباده، وإحلالُها الإخلالُ بها، والأول أنسبُ بالمقام. {وَلاَ الشهر الحرام} أي لا تُحِلّوه بالقتال فيه، وقيل: بالنّسيء، والأول هو الأولى بحالة المؤمنين، والمراد به شهر الحج، وقيل: الأشهر الأربعة الحرم، والإفراد لإرادة الجنس {وَلاَ الهدى} بأن يُتعرَّضَ له بالغَضْب أو بالمنع عن بلوغِ مَحِلِّه، وهو ما أُهدِيَ إلى الكعبة من إبل أو بقر أو شاءِ، جمعُ هَدْيَة كجَدْيٍ وجَدْية {وَلاَ القلائد} هي جمعُ قِلادة، وهي ما يُقلَّد به الهدْيُ من نعلٍ أو لِحاءِ شجرٍ ليُعلم به أنه هدْيٌ فلا يُتعرَّضَ له، والمراد النهيُ عن التعرض لذوات القلائد من الهدْي وهي البُدْن، وعطفُها على الهدي مع دخولها فيه لمزيد التوصية بها لمزيتها على ما عداها، كما عَطفَ جبريلَ وميكالَ على الملائكة عليهم السلام، كأنه قيل: والقلائدَ منه خصوصاً، أو النهيُ عن التعرض لنفس القلائدِ مبالغةً في النهي عن التعرض لأصحابها، على معنى لا تُحِلّوا قلائدَها فضلاً عن أن تحلوها، كما نهى عن إبداء الزينة بقوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} مبالغةً في النهي عن إبداء مواقِعِها {وَلاَ الشهر الحرام وَلاَ} أي لا تُحلّوا قوماً قاصدين زيارته بأن تصُدّوهم عن ذلك بأي وجه كان، وقيل: هناك مضافٌ محذوف أي قتالَ قومٍ أو أذى قوم آمين الخ، وقرئ {ولا آمِّي البيتِ الحرامِ} بالإضافة، وقوله تعالى: {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّن رَّبّهِمْ ورضوانا} حالٌ من المستكنِّ في آمين لا صفةٌ له، لأن المختار أن اسم الفاعل إذا وُصف بطَلَ عملُه أي قاصدين زيارته حال كونهم طالبين أن يُثيبَهم الله تعالى ويرضَى عنهم. وتنكيرُ {فضلاً ورضواناً} للتفخيم، و{من ربهم} متعلق بنفس الفعل، أو بمحذوفٍ وقع صفة لفضلاً مُغنيةً عن وصفِ ما عُطف عليه بها، أي فضلاً كائناً من ربهم ورضواناً كذلك.
والتعرُّضُ لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم لتشريفهم والإشعارِ بحصول مبتغاهم. وقرئ {تَبْتغون} على الخطاب، فالجملة حينئذ حال من ضمير المخاطَبين في {لا تُحلوا} على أن المرادَ بيانُ منافاة حالهم هذه للمنهيِّ عنه لا تقييدُ النهي بها، وإضافة الرب إلى ضمير الآمّين للإيماء إلى اقتصار التشريف عليهم، وحِرمانِ المخاطَبين عنه وعن نيل المبتغى، وفي ذلك من تعليلِ النهْي وتأكيدِه والمبالغة في استنكار المنهيّ عنه ما لا يخفى، ومن هاهنا قيل: المراد بالآمّين هم المسلمون خاصة، وبه تمسك من ذهب إلى أن الآية مُحْكمة، وقد رُوي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:
«سورة المائدة من آخِرِ القرآن نزولاً فأحِلّوا حَلالَها وحرِّموا حرامَها» وقال الحسن رحمه الله تعالى: ليس فيها منسوخ، وعن أبي ميسرة: فيها ثماني عشرةَ فريضةً وليس فيها منسوخ.
وقد قيل: هم المشركون خاصة لأنهم المحتاجون إلى نهي المؤمنين عن إحلالهم دون المؤمنين، على أن حرمة إحلالهم ثبتت بطريق دلالة النص، ويؤيده أن الآية نزلت في الحطم بنِ ضبيعة البَكْري وقد كان أتى المدينة فخلّف خيلَه خارجها فدخل على النبي عليه الصلاة والسلام وحده ووعده أن يأتيَ بأصحابه فيُسلموا، ثم خرج من عنده عليه السلام فمر بسَرْح المدينة فاستاقه، فلما كان في العام القابل خرج من اليمامة حاجاً في حُجّاج بكرِ بنِ وائل ومعه تجارة عظيمة وقد قلّدوا الهدْي، فسأل المسلمون النبي صلى الله عليه وسلم أن يُخلِّيَ بينهم وبينه فأباه النبي عليه الصلاة والسلام فأنزل الله عز وجل: {يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله} الآية، وفُسِّر ابتغاءُ الفضل بطلب الرزق بالتجارة، وابتغاءُ الرضوان بأنهم كانوا يزعُمون أنهم على سِدادٍ من دَيْنهم، وأن الحج يقرّبهم إلى الله تعالى، فوصفهم الله تعالى بظنهم، وذلك الظنُّ الفاسد وإن كان بمعزل من استتباع رضوانِه تعالى لكن لا بُعدَ في كونه مداراً لحصول بعض مقاصدهم الدنيوية وخلاصِهم عن المكاره العاجلة لا سيما في ضمن مراعاة حقوق الله تعالى وتعظيم شعائره، وقال قتادة: هو أن يُصلح معايشَهم في الدنيا ولا يعجّلَ لهم العقوبة فيها، وقيل: هم المسلمون والمشركون، لما رُوي عن ابن عباسٍ رضي الله تعالى عنهما أن المسلمين والمشركين كانوا يُحجّون جميعاً فنهى الله المسلمين أن يمنعوا أحداً عن حج البيت بقوله تعالى: {لاَ تُحِلُّواْ} الآية، ثم نزل بعد ذلك، {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام} وقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله} وقال مجاهد والشعبي: {لا تحلوا} نُسخ بقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} ولا ريب في تناول الآمّين للمشركين قطعاً، إما استقلالاً وإما اشتراكاً لما سيأتي من قوله تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ} الخ، فيتعين النسخُ كُلاًّ أو بعضاً، ولا بد في الوجه الأخير من تفسير الفضل والرضوان بما يناسب الفريقين، فقيل: ابتغاء الفضل أي الرزق للمؤمنين والمشركين عامة، وابتغاء الرضوان للمؤمنين خاصة، ويجوز أن يكون الفضلُ على إطلاقه شاملاً للفضل الأخروي أيضاً، ويختص ابتغاؤه بالمؤمنين {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا} تصريح بما أشير إليه بقوله تعالى: {وَأَنتُمْ حُرُمٌ} من انتهاء حرمة الصيد بانتفاء موجِبِها، والأمر للإباحة بعد الحظر كأنه قيل: إذا حَلَلْتم فلا جُناح عليكم في الاصطياد، وقرئ {أَحْللتم}، وهو لغة في حلَّ، وقرئ بكسر الفاء بإلقاءِ حركة همزة الوصل عليها وهو ضعيف جداً.
{وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} نهَى عن إحلال قومٍ من الآمِّين خُصّوا به مع اندراجهم في النَهْي عن إحلال الكلِّ كافة، لاستقلالهم بأمور ربما يُتوهَّم كونُها مُصحِّحةً لإحلالهم، داعيةً إليه. وجَرَم جارٍ مَجْرى كَسَبَ في المعنى وفي التعدِّي إلى مفعول واحد وإلى اثنين، يقال: جَرَم ذنباً نحوُ كسبَه، وجرَمتُه ذنباً نحو كَسَبْتُه إياه، خلا أن جَرَم يستعمل غالباً في كسْبِ ما لا خير فيه، وهو السبب في إيثارِه هاهنا على الثاني. وقد يُنقل الأولُ من كلَ منهما بالهمزة إلى معنى الثاني، فيقال: أجرمته ذنباً وأكسبته إياه، وعليه قراءة من قرأ يُجرِمَنَّكم بضم الياء {شَنَانُ قَوْمٍ} بفَتْح النون وقرئ بسكونها، وكلاهما مصدرٌ أضيف إلى مفعوله، لا إلى فاعله كما قيل، وهو شدة البغض وغاية المقت {أَن صَدُّوكُمْ} متعلق بالشنآن بإضمار لام العلة أي لاِءَنْ صدوكم عامَ الحُدَيْبية {عَنِ المسجد الحرام} عن زيارته والطواف به للعمرة، وهذه آية بيّنةٌ في عموم آمّين للمشركين قطعاً، وقرئ {إِنْ صدوكم} على أنه شرط معترضٌ أغنى عن جوابه {لا يجرمنكم}، قد أبرز الصدَّ المحقّقَ فيما سبق في معرِض المفروض، للتوبيخ والتنبيه على أن حقه ألا يكون وقوعُه إلا على سبيل الفرض والتقدير {أَن تَعْتَدُواْ} أي عليهم، وإنما حُذف تعويلاً على ظهوره وإيماءً إلى أن المقصِدَ الأصلي من النهْي منعُ صدورِ الاعتداء عن المخاطَبين محافظةً على تعظيم الشعائر، لا منعُ وقوعِه على القوم مراعاة لجانبهم، وهو ثاني مفعولَيْ {يجرمنكم}، أي لا يَكسِبَنَّكم شدةُ بغضِكم لهم لصدهم إياكم عن المسجد الحرام اعتداءَكم عليهم وانتقامَكم منهم للتشفّي، وهذا وإن كان بحسب الظاهر نهياً للشنآن عن كسب الاعتداء للمخاطَبين، لكنه في الحقيقة نهيٌ لهم عن الاعتداء على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه، فإن النهي عن أسباب الشيء ومباديه المؤديةِ إليه نهيٌ عنه بالطريق البرهاني، وإبطالٌ للسببية، وقد يوجِّه النهيُ إلى المسبَّب ويراد النهيُ عن السبب كما في قوله: لا أُرَيَنّك هاهنا. يريد به نهي مخاطِبَه عن الحضور لديه، ولعل تأخير هذا النهي عن قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا} مع ظهور تعلقِه بما قبله للإيذان بأن حرمة الاعتداء لا تنتهي بالخروج عن الإحرام كانتهاء حرمة الاصطياد به، بل هي باقية ما لم تنقطع علاقتُهم عن الشعائر بالكلية وبذلك يُعلم بقاءُ حرمة التعرضِ لسائر الآمّين بالطريق الأَوْلى.
{وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى} لما كان الاعتداءُ غالباً بطريق التظاهرُ والتعاون أُمروا إِثْرَ ما نُهوا عنه بأن يتعاونوا على كل ما هو من باب البر والتقوى، ومتابعةِ الأمر ومجانبةِ الهوى، فدخل فيه ما نحن بصدده من التعاون على العفو والإغضاءِ عما وقع منهم دخولاً أولياً، ثم نُهُوا عن التعاون في كل ما هو من مَقولة الظلمِ والمعاصي بقوله تعالى: {وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان} فاندرج فيه النهيُ عن التعاون على الاعتداء والانتقام بالطريق البرهاني، وأصل {لا تعاونوا} لا تتعاونوا فحذَفَ منه إحدى التاءين تخفيفاً، وإنما أَخَّر النهْي عن الأمر مع تقدُّم التخلية على التحلية مسارعةً إلى إيجاب ما هو مقصود بالذات، فإن المقصود من إيجاب تركِ التعاونِ على الإثم والعدوان إنما هو تحصيلُ التعاون على البر والتقوى، ثم أُمروا بقوله تعالى: {واتقوا الله} بالاتقاء في جميع الأمور التي من جملتها مخالفةُ ما ذُكر من الأوامر والنواهي، فثبت وجوبُ الاتقاءِ فيها بالطريق البرهاني ثم علل ذلك بقوله تعالى: {أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب} أي لمن لا يتقيه فيعاقبكم لا محالة إن لم تتقوه، وإظهارُ الاسم الجليل لما مرّ مراراً من إدخال الرَّوْعة وتربية المهابةِ وتقويةِ استقلال الجملة.


{حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة} شروعٌ في بيان المُحرَّمات التي أشير إليها بقوله تعالى: {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} والميتة ما فارقه الروحُ من غير ذبح {والدم} أي المسفوحُ منه لقوله تعالى: {أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا} وكان أهلُ الجاهلية يصُبّونه في الأمعاء ويشْوونه، ويقولون: لم يُحرَّمْ مِنْ فَزْدٍ له أي من فصْدٍ له {وَلَحْمُ الخنزير وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} أي رفعُ الصوت لغير الله عند ذبحِه، كقولهم: باسم اللات والعزى {والمنخنقة} أي التي ماتت بالخنق {والموقوذة} أي التي قُتلت بالضرب بالخشب ونحوِه، مِنْ وَقَذْتُه إذا ضربته {والمتردية} أي التي تردّت مِنْ علوَ أو إلى بئرٍ فماتت {والنطيحة} أي التي نطحتها أخرى فماتت بالنطح، والتاء للنقل، وقرئ {والمنطوحة} {وَمَا أَكَلَ السبع} أي وما أكل منه السبُعُ فمات وقرئ بسكون الباء، وقرئ و{أكيلُ السبع}، وفيه دليلٌ على أن جوارحَ الصيد إذا أكلت مما صادته لم يحِلّ {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} إلا ما أدركتم ذَكاتَه وفيه بقيةُ حياةٍ يضطرِبُ اضطرابَ المذبوح. وقيل: الاستثناء مخصوص بما أكل السبع.
والذَكاةُ في الشرع بقطع الحُلقومِ والمَرِيء بمُحدَّد {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} قيل: هو مفردٌ، وقيل: جمع نِصاب، وقرئ بسكون الصاد، وأياً ما كان فهو واحد الأنصاب، وهي أحجار كانت منصوبةً حول البيت يَذبَحون عليها ويعدّون ذلك قُربة، وقيل: هي الأصنام {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالازلام} جمع زَلَم وهو القدح أي وحرم عليكم الاستقسام بالقِداح وذلك أنهم إذا قصدوا فعلاً ضربوا ثلاثة قداحٍ مكتوب على أحدها أمرني ربي، وعلى الثاني نهاني ربي، وعلى الثالث غُفْل، فإن خرج الآمرُ مضَوا ذلك، وإن خرج الناهي اجتنبوا عنه، وإن خرج الغافل أجالوها مرة أخرى، فمعنى الاستقسام طلبُ معرفةِ ما قُسِم لهم بالأزلام، وقيل: هو استقسامُ الجَزورِ بالأقداح على الأنْصِباء المعهودة {ذلكم} إشارة إلى الاستقسام بالأزلام، ومعنى البعد فيه للإشارة إلى بُعد منزلتِه في الشر {فِسْقٌ} تمرّدٌ وخروجٌ عن الحد ودخولٌ في علم الغيب، وضلال باعتقاد أنه طريق إليه، وافتراء على الله سبحانه إن كان هو المراد بقولهم ربي، وشركٌ وجهالة إن كان هو الصنم، وقيل: ذلكم إشارةٌ إلى تناول المحرَّماتِ المعدودةِ لأن معنى تحريمها تحريمُ تناولِها.
{اليوم} اللام للعَهْد، والمراد به الزمان الحاضرُ وما يتصل به من الأزمنة الماضية والآتية وقيل: يومُ نزولِها، وقد نزلت بعد عصر الجمعةِ يومَ عَرَفةَ في حَجةِ الوداع والنبي صلى الله عليه وسلم واقفٌ بعَرَفاتٍ على العضباء، فكادت عضُدُ الناقة تندق لثقلها فبرَكَت، وأياً ما كان فهو منصوب على أنه ظرف لقوله تعالى: {يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ} أي من إبطالِه ورُجوعِكم عنه بتحليل هذه الخبائِثِ أو غيرِها، أو مِنْ أن يغلِبوكم عليه لِمَا شاهدوا من أن الله عز وجل وفى بوعدِه حيث أظهره على الدين كلِّه وهو الأنسب بقوله تعالى: {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ} أي أنْ يظهرَوا عليكم {واخشون} أي وأخْلِصوا إليّ الخشية {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} بالنصر والإظهار على الأديان كلها، أو بالتنصيص على قواعد العقائد، والتوقيفِ على أصول الشرائع وقوانين الاجتهاد.
وتقديمُ الجار والمجرور للإيذان من أول الأمرِ بأن الإكمالَ لمنفعتهم ومصلحتهم، كما في قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} وعليكم في قوله تعالى: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى} متعلِّقٌ بأتممت لا بنعمتي لأن المصدرَ لا يتقدم عليه معمولُه، وتقديمه على المفعول الصريح لما مرّ مراتٍ، أي أتممتُها بفتح مكةَ ودخولِها آمنين ظاهرين، وهدمِ منارِ الجاهلية ومناسكِها والنهْيِ عن حجِّ المشرك وطوافِ العُرْيان، أو بإكمال الدينِ والشرائع، أو بالهداية والتوفيق، قيل: معنى أتممت عليكم نعمتي أنجزتُ لكم وعدي بقولي: {وَلاِتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ} {وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً} أي اخترتُه لكم من بين الأديان وهو الدينُ عند الله لا غيرُ. عن عمرَ بنِ الخطاب رضي الله تعالى عنه أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين آيةٌ في كتابكم تقرؤنها لو علينا معشرَ اليهود نزلت لاتخذْنا ذلك اليوم عيداً، قال: أي آية؟ قال: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى} الآية. قال عمر رضي الله تعالى عنه: قد عرفنا ذلك اليومَ والمكانَ الذي أنزلت فيه على النبي عليه الصلاة والسلام وهو قائم بعرفَةَ يومَ الجمعة، أشار رضي الله تعالى عنه إلى أن ذلك اليومَ عيدٌ لنا، ورُوي أنه «لما نزلت هذه الآيةُ بكى عمرُ رضي الله تعالى عنه فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ما يُبكيك يا عمر؟ قال: أبكاني أنا كنا في زيادةٍ من دينِنا، فإذا كَمَلَ فإنه لا يكملُ شيءٌ إلا نقَصَ، فقال عليه الصلاة والسلام: صدقت فكانت هذه الآيةُ نعْيَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فما لبِثَ بعد ذلك إلا أحداً وثمانين يوماً».
{فَمَنِ اضطر} متصلٌ بذكر المحرمات، وما بينهما اعتراضٌ بما يوجبُ أن يُجتنَبَ عنه، وهو أن تناوُلَها فسوقٌ، وحرمتُها من جملة الدينِ الكاملِ والنعمةِ التامةِ والإسلامِ المَرْضِيِّ، أي فمن اضطُر إلى تناول شيءٍ من هذه المحرمات {فِى مَخْمَصَة} أي في مجاعة يَخافُ معها الموتَ أو مبادِيَه {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} قيل: غيرَ مائلٍ ومنحرفٍ إليه، بأن يأكُلَها تلذُّذاً أو مُجاوِزٍ حدَّ الرُّخصة أو ينتزِعَها من مضطرٍ آخَرَ كقوله تعالى: {غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لا يؤاخذه بذلك.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8